فلسفة الثورة، في 26 أبريل 2016، (مجديات أخي الحبيب الراحل المقدم مجدي صقر، رحمه الله، وطيب ثراه)!

الحمد لله رب العالمين!


كان الناس في مبتدأ حياتهم على الأرض يعيشون فرادى أو في جماعات صغيرة، وكانت الأرزاق تكفيهم، إلا أنه بعد زيادة عدد السكان وانحسار الموارد ظهرت اللّصوصية والاغتصاب بأشكال مختلفة؛ فظهرت حاجة السكان الماسّة إلى تكوين الدول، وكانت الدول في بداياتها دول العائلات والقبائل. كانت الدول تنشأ في الأساس لحماية أفرادها، وكان الأفراد يقومون بدفع الضرائب للسلطة الحاكمة وجيشها نظير هذه الخدمة العظيمة، وكانت السلطة تنتقل من الملك إلى خلفه بشرعية التوريث، وكانت الشرعيّة الأهم والأبْرز في تشكيل الدول هي شرعية الغزو واستخدام القوة (شرعية الأمر الواقع). ولقد أوجد الإسلام بالفتوحات الإسلامية شرعية جديدة، هي شرعية نشر الحق والعدل والحرية والمساواة ومكارم الأخلاق، شرعية تحرير الناس من عبادة الناس إلى عبادة رب الناس، وضمان حرية الاعتقاد- شرعية تأمين الدولة الإسلامية من أعدائها الحاليين أو المحتملين (الفرس، والروم، والأقاليم الموالية لهما)، وإجراء ضربات استباقية. تأثّر نابليون بالثقافة الإسلامية، وبرر غزوه لمصر بأنّه جاء ليخلّص المصريين من اضّطهاد المماليك ونشر العلم والحضارة! وتبنى الغزاة الأوروبيون هذه الفكرة، فكان احتلال الدول الإسلامية وتدميرها بحجة نشر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان!
لم يرسل الله الأنبياء إلى الملوك والشعوب إلا لتوجيه النصح لهم وإرشادهم إلى ما يجب أن يفعلوه لتكون حياتهم أفضل، لكن هذا الأمر اختلف مع نبي الله موسى Ùˆ من بعده النبي داوود وسليمان ونبي الله محمد أيضا -عليهم الصلاة والسلام!- إذ أمروا بأن يكونوا السلطة السياسية والمرجعية الدينية القيميّة الأخلاقيّة والتشريعيّة في الوقت نفسه. انتقل الملك بعد رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- إلى الصدّيق أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي -رضي الله عنهم جميعا!- وذلك بالشرعية القرشية وبشرعية القدرة على الإصلاح والكفاية في إدارة شؤون الدولة؛ “إنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون”.
كان الحكم ينتقل بين الملوك في فرنسا بشرعية التوريث، وبانتشار الفساد والفقر والفشل أراد الفرنسيون إحداث تغيير نحو الأفضل؛ لقد حاولت الثورة الفرنسية إيجاد شرعية جديدة بخلاف التوريث، وتوصلت إلى شرعية الأقدر على تحقيق وتنفيذ الإصلاح متأثرة بالفكرة الإسلامية. وبعد كثير من التجارب الإنسانية العالمية استقر الفكر السياسي العالمي على شرعية الانتخابات برغم اختلاف شروطها وأسلوب تنفيذها بين دول العالم.
إن الثورة هي الاعتراض الغاضب، فإن كان الغضب شعبة من الجنون فالثورة هي قمّة الغضب، ويُعدّ الأنبياء بجهادهم في نشر دعوتهم أروع وأوضح النماذج الثورية عبر التاريخ الإنساني، التي تستحق الدراسة واستلهام الأفكار. لم يرسل الله الأنبياء إلى الناس لمهادنة الباطل أو مسايرة الفساد أو لمجرّد إعادة تقسيم الثروة والسلطة أو لاستحداث ظالمين كالظالمين أو أشد بأسا وبطشا كما فعلت معظم الثورات عبر التاريخ الإنساني، ولكنه أرسلهم لنصرة الحق وتحديد الحقوق والواجبات ونشر العدل والمساواة وترسيخ دعائم دولة القانون؛ لذا كانت الحكمة والموعظة الحسنة أهم وسائل الأنبياء لمواجهة الباطل والفساد؛ يقول الله لموسى وهارون: “اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا ليّنا لعلّه يتذكر أو يخشى”. يروى أن رجلا جاء النبي -صلى الله عليه، وسلم!- يشكو إيذاء جاره له، فأمره النبي بنصيحة جاره والصبر عليه، فلما تكررت الشكوى أمره النبي أن يحمل متاعه ويجلس به في الطريق، فكلّما مر عليه أحد من الناس شكا له إيذاء جاره له، فأخذ المجتمع في مهاجمة الباغي وتوبيخه حتى كف يده، فكأنّ هذه الصورة هي التي أقرها النبي محمد -عليه الصلاة والسلام!- للثورة السلميّة على كل ظالم في المجتمع الإسلامي، وجعل الاحتجاج المسلح هو آخر الدواء، والله أعلم!
يذكر أنه لما حدثت الفتنة بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رفض سعد بن أبي وقاص أن ينحاز إلى أيّ منهما، وقال من جاء يقاتلني فـ”سوف أتّخذ سيفا من خشب”ØŒ كناية عن المسالمة وعدم الرغبة في الانجرار لفتنة. وامتلأ التاريخ الإسلامي والعالمي بالثورات الدموية التي راح ضحيتها الآلاف، والتي لم تحدث الإصلاحات المرجوة منها، والتي استبدلت بظالم أظلم، وبفاسد أفسد! لقد كان الترف الذي يعيشه الملوك والقداسة التي تحيط بهم وبأشياعهم مع عدم إمكانية محاسبتهم على أخطائهم وعدم وجود آلية عادلة لانتقال السلطة تعلي الصالح الوطني على الأطماع والأهواء الشخصية، من أهم أسباب اندلاع الثورات عبر التاريخ الإنساني.
ولقد شهد التاريخ المصري القديم والحديث والمعاصر الكثير من الثورات الشعبيّة ضد الاحتلال الأجنبي، وكذلك ضد الفساد والانحراف، كان من أشهرها:
ثورة الإمام العز بن عبد السلام الذي هاجم بها الفساد المالي والانحراف القانوني في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب أواخر الدولة الأيوبية. ثبت العز بن عبد السلام على موقفه الإصلاحي بطريقه اعتراض سلمية، ولم يحرض فيها الشعب على قتال الحاكم. حتى في زمن سيف الدين قطز والظاهر بيبرس لم يتوقف نشاط الإمام العز بن عبد السلام عن إصلاح وتوجيه الناس والملوك والأمراء، كما عمل على دعم الدولة والحاكم ومساعدته في إجراء الإصلاحات الضرورية للدولة وكذلك في مواجهه أعداء الدولة.
ثورة الإمام عمر مكرم الذي هاجم الاحتلال الفرنسي وخلع حاكم مصر خورشيد باشا وكان له دور بارز في تولي محمد علي باشا حكم مصر.
ثورة اللواء محمد نجيب (الضباط الأحرار)، الذي هاجم الاحتلال الانجليزي، وخلع الملك فاروق، وأنهى نظام الحكم الملكي في مصر. لقد كثرت في مصر وقتها الأحزاب والحركات السياسيّة والأفكار السلبيّة، وكذلك القادة والزعماء في مشهد عبثي كان يمرض الوطن أكثر من أن يعافيه؛ فقد كانوا يتوسلون و يتسولون المكاسب السياسيّة والمادية من الاحتلال الإنجليزي كما يفعلون الآن مع الأمريكان (الاحتلال البعيد)! لم تنجح الأحزاب وسياسيوها ولا الجماعات وشيوخها ولا الصحف وكتابها في طرد الاحتلال من مصر، بل زادوا الوطن وهنا علي وهن، وكادت مصر أن تموت بهم ومعهم، وفي خطوة غير متوقعه أنهى الجيش هذا العبث، فخرج على الملك، وأخرجه، وأيّده الشعب، وكانت ثورة 1952. ولم يكن لهذه التيارات السياسية ولا الجماعات الأصوليّة يد في هذا العمل الثوري؛ لذا لم يكن لهم نصيب في هيئة الحكم الجديد.
أحداث يناير 2011. كان لتقدم مبارك في السن ورغبة الأمريكان في وجود بديل له، الدافع لإنشائها جماعات سياسية ليبرالية وتقديم الدعم المالي والتدريبي والتنظيمي لها مساعدتها في السيطرة على مصر لضمان مصالحهم في الفترة القادمة، لكنهم أدركوا أن الهوى الديني أقرب لقلوب المصريين من الأحزاب السياسية المتصلة بأفكار وثقافات وتجارب أمم أخرى غريبه عليهم. وكانت تجربة الأمريكان مع حركة طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان مريرة؛ فتجنبوا إلى حد ما التعامل مع التيار السلفي، وفضّلوا جماعة الإخوان المسلمين القادرة على تقديم أكبر قدر من التنازلات، والتي كانت تتواصل معها وتدعمها في الوقت نفسه الذي كانت تعامل فيه التيار الليبرالي وتدعمه حتي يكون للأمريكان الفضل واليد العليا على كل التيارات السياسية المصرية، وتضمن ولاءها وتبعيتها حال وصول أحدها للحكم. لقد وصل الإخوان المسلمون إلى حكم مصر، ورافقهم تفكيرهم المتصلّب وقلة خبرتهم وسلوكهم الاستبدادي البغيض، فسارعوا كما فعل الملك من قبل إلى تقديم التنازلات والتسهيلات للأمريكان (الاحتلال البعيد)، على حساب الصالح الوطني، ليضمنوا بقاءهم في السلطة؛ فهل يعيد التاريخ نفسه!
مصر ما بين النكسة والكبوة
حكم جمال عبد الناصر مصر، وظلت المحاولات الانقلابية عليه من أصدقائه قبل خصومه، Ùˆ كان قراره تأميم قناة السويس وما تلاه من حرب 1956. كانت إسرائيل ترغب في احتلال سيناء لإقامة منطقة عازلة بين الشعب المصري وبينها في فلسطين فكانت نكسو 1967Ø› وبها تحولت المعادلة من تحرير فلسطين إلى تحرير سيناء، Ùˆ”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”! استطاع المصريون بعون الله وبمعاونة إخوانهم العرب والمسلمين، أن يصنعوا عملا إبداعيّا فيحرروا جزءا من سيناء أملا في تحرير الباقي منها. لم يتقبّل الأمريكان النصر المصري، وأخذوا في بحث وتحديد نقاط القوة التي اعتمد عليها صانع القرار المصري في تحقيق نصره، وقاموا بتدميرها الواحدة تلو الأخرى، على النحو الآتي:
1) قتل الملك فيصل، الذي تجرأ كثيرا في الوقوف بجانب مصر.
2) كانت الثورة الإيرانية على الشاه محمد رضا بهلوي إحدى صور معاقبة من عاون مصر.
3) السيطرة على منطقة مضيق باب المندب.
4) إثارة الفتنه بين مصر وليبيا، التي وصلت لحالة الحرب بينهما، وكذلك بين مصر والجزائر.
5) ضرب التماسك العربي بتحريض الأنظمة العربية الموالية لأمريكا، على إهانة مصر وقطع المعونات الاقتصادية عنها وتعمد إهانة المصريين العاملين لديها ونشر كراهية وعداء المصريين.
6) تدمير الجبهة الداخلية المصرية -وبتفكيك المجتمع المصري وإنهاكه تحرم مصر القدرة المعنوية على دخول معركة أخرى- بمثل نشر الكراهية بين المسلمين والمسيحيين، ونشر النكات المهينة بين مواطني الأقاليم المصرية لتعميق الكراهية بين أفراد الشعب بعضهم وبعض.
7) السيطرة على الجيش واحتكار توريد السلاح لمصر وتحجيم التصنيع العسكري وإضعاف قدرة مصر على التصدير العسكري، وقطع العلاقات العسكرية المصرية العربية ومنع التعاون فيما بينهم في مجال التصنيع العسكري.
8) تحجيم العلاقات المصرية الإفريقية، ومحاولة السيطرة الإسرائيلية على منابع النيل، مع قطع أو تحجيم العلاقات التجارية المصرية الإفريقية، وإغلاق السوق الإفريقية أمام السلع المصرية.
9) إهمال الزراعة، والاعتماد على استيراد الغذاء، وتحويل اعتماد الاقتصاد المصري إلى السياحة والصناعة التي تتوقف عادة زمن الحرب.
10) إعادة الصراعات السياسية والتكالب على السلطة، وإحياء الخلايا السياسية (النائمة)، لنشر الاضطرابات والفوضى لإرباك مصر والتعجيل بانهيارها.
إنّ الكبوة التي تمر بها مصر الآن لن تنتهي إلا بجهود العلماء النجباء والمفكرين المخلصين من أبناء الوطن، الذين لم ينذروا حياتهم لجمع الثروة ولا يستهويهم بريق الشهرة ولم يأسرهم ويقيدهم طموح السلطة. يعلمنا التاريخ أن فساد الحاكم من فساد الرعية، وفساد الرعية ترجمة لفساد الحاكم؛
فلن يصلح حال أمة إلا بصلاح كل من الرعية والحاكم. ويقع الدور الأكبر في تحقيق ذلك على أهل العلم والفكر والرأي في تربية الشعوب وإصلاحها وتوجيه الحكام وبذل النصح لهم بإصرار وعزيمة وصبر وتجرد عن الطمع في السلطة أو تحقيق منفعة شخصية؛ فلا يجوز أن تكون غايتهم هي المناصب والحكم، بل يجب أن تكون حالهم كقول الرجل الصالح: “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت”Ø› فاللهم، ألهمنا سبيل الرشاد، حفظ الله مصر والمصريين!

Related posts

Leave a Comment